2012-01-02

رشاد حليمة ... قصة بقلم : أيمن عبد السميع

( رشاد حليمة )

( 1 )

في ذلك البيت الضيق ؛ يجمعنا أنا وأمي

نعم .. بيتنا حجرة ، بالضبط حجرة ، تحت السلم في الحارة ، الكل يعرفونني باسم ( رشاد حليمة )

( 2 )

مازال المشهد ماثلاً في مخيلتي ..

أصبحت الآن أفكر في شئ سلبني ما كنت فيه من لحظات.. صوت رتيب يمزق الليل" طق. طق.طق" قدم ثقيلة تقترب .. وتبتعد .. تجوب أرجاء الطرقة الطويلة بلا هدف .. تمتمت مع وحدتي ..

*نعم .. السجان يتجسس علي بالتأكيد .. هل يعتقد أنني أمارس العادة السرية ؟!

بصقت علي الأرض القذرة دون أن امسح شاربي .. نعم يجئ الليل هنا بهمسات غريبة .. تذكرت معها صوت أمي الحنون .. " هيا يا رشاد نحضر صاجات " المخمر" من فرن المعلم "عوض قنديل"

عندما رن صدي الاسم الأخير في أذني .. شممت رائحة اختمار الأرض بالأجساد العفنة التي ترقد حولي .. وجاء صوت أمي حليمة :

*انك لست الوحيد الذي ظلم في الدنيا يا ضنايا !

( 3 )

كان الليل عملاق اسود .. تدور أغلاله بين نقيق الضفادع وحفيف سعف النخيل .. والهواء الشديد يلطم النافذة المكسورة .. ينبهني صوت المعلم ( عوض ) وأنا أدفن وجهي أمام " راكية الفحم"

*هات " الريموت" يا رشاد .. يا ولد حليمة المحرومة من الطشة !

تسرب إلي أذني صوت المعلم " سيد بلال " صاحب مطحن البن ..

*يا معلم عوض لم أعد قادراً علي امتطاء زوجتي منذ شهر

قال المعلم " موريس " الترزي:

*ستمتطيها الليلة يا معلم سيد كما وعندنا المعلم عوض

وانفجروا جميعاً في الضحك..

3-2-1- . ثم بدأ مراسم الفيلم.. انبثق الضوء علي مؤخرتها البيضاء في المرآة .. عيناها متوهجتان نهمتان .. ازدادت كثافة التوهج .. كان قلبي العصفور يطير محلقاً.. تراقصت الأطياف وصوت انهمار المطر يضطرب ويزداد حده .. ثم تهدأ الرجفة .

أحسست بالغثيان ، وانتابتني رغبة في القئ، فقررت أن أعود ماشياً .. شجعتني النسائم الطرية العفية .. تذكرت بعض لقطات من الفيلم فصار الظلام موحشاً .. والريح الباردة تهز الأشجار الواقفة بعنف .. وعلي ضوء أعواد الثقاب تحسست الطريق حتى وصلت إلي بيتنا في الزقاق الضيق.

من هذا البعد .. يبدو دكان "الاسطي حسن" الحلاق وسط هذا الظلام بؤرة من النور الأصفر. فجوة في جدار ممتد .. جسم أدمي ينثني ثم يعيد قامته ويحرك يديه .. يقف أمام جسد لا يتحرك .

( 4 )

تشاغلت بالهدوء .. فلم يعد صوت " كركرة " ماء الشيشة يقظاً .. تقرفصت بجوار برميل خشبي ضخم ، وبصري معلق بشاشة التلفزيون .. كان المعلم ورفاقه في ثبات عميق .. رحت انقل بصري بين النائمين وبين الحية البيضاء التي تكشف هضابها وتلالها وخنادقها .. يزداد فوران العاصفة .. كانت يدي تختفي في الظلمة .. حملقت بشدة وتصلبت أوتار رقبتي واستسلمت للرجفة التي أصابتني .. وبعد لحظات .. تمددت بجوار النائمين .. بدت المخلوقات جميعاً سواء .. الجميلات والقبيحات .. ثم تلاشت كل الأسرار !

وكان المطر يهطل خارج (الخص) فارتعدت فرائصي من الخوف فدفنت وجهي في الغطاء .

( 5 )

أقبل الليل كعادته .. كانت الأعواد الجافة في الأرض القاحلة تهتز وترتعد .. وبعد ساعة أو نحوها .. اجتمعت ( قعدة الخص ) مبكراً .. وانفضت مبكراَ .. وكان المعلم " عوض قنديل" يرفل في عباءته الفضفاضة هرش في مضض بين فخذيه صال الغول وجال .. كان يعزف لحناً همجياً " وقبل أن افتح فمي " أقترب مني .. اقتراب كثير .. اشتدت ضربات الطبول والدفوف .. وعوي في كالمعتوه انبعثت منه رائحة تبغ زاعق ..

*اقلع هدومك !

صرخت في هلع .. ارتعشت أطرافي .. كانت كلمات علي لساني تهرول .. تتعثر .. تلهث .. أحسست بمئات الخيل تدوسني تحت سنابكها .. تتركني جرحاً ..

*أنت عايز أيه؟! .... كررتها مرات ومرات .

اختنق صوتي .. كنت أحس بحدقتي عيني تؤلماني وبساقاي يرتعشان .

هوي بمعوله يحفر لحداً .. ارقد فيه .. تعالت الأصوات وتضخمت لحظة الدفن.. توسلت إليه أن يرحمني دون جدوى .. كان صوتي مذبوحاً ضاق عن احتواء الكلمات .. لن يكن عقلي مستعداً مطلقاً لاستيعاب تلك الحقيقة المرة .. فلم أعد أري شيئاً واضح المعالم .. تكاثفت بداخلي ذرات القهر ثم تقلص جسدي في يأس وتمزقت خلاياه .. وبعد لحظات تمدد المجرم وكأنه جيفة تبخرت منها الحياة .. اتسعت دائرة العين .. ثم أطلقت قدمي للرياح .. أجرجر خلفي غباراً موتُوراً .. وبدأت الرحلة شاقة وعسيرة إلي بلد بعيدة.. كل شئ فيها صامت إلا صوت ( عسكري الدورية ) يجوب في الطرقات بلا هدف .. وكأنه يتباهى في خطواته كزورق في بحر هادئ .. تسيطر عليه أحلام السطوة والجبروت

*هااااااااااه .. هااااااااااه ..مين هناك ؟!

( 6 )

عبر النافذة الزجاجية المتسخة..

عاد الصفاء إلي الشمس فاستدار القرص ، وغطت الزرقة الشفافة وجه السماء ..

*ألا تذهب للمخبز يا رشاد؟

لم تكن لدي الرغبة في العمل بعد الذي حدث ، أو أي شئ آخر .. كنت أنظر إلي الأشياء كما لو كنت أراها لأول مرة .. لقد تعلمت الخجل من نفسي ونواقصي .. تذكرت بسمة أمي ، وهي تحنو علي .. بدأت اخلع ملابسي وارتدي منامتي المهلهلة .. تحشرج صوتي في حلقي:

*لن اذهب .. تعبان .. عايز أنام .

*المعلم يزعل يا ضنايا.

*يغور في ستين داهية !

ودفنت رأسي بين الوسادة واللحاف فأتضح لي أن حزني لا يزال حارقاً.

( 7 )

كنت أهرب من نفسي .. أخرج إلي الشوارع أخفي همومي وراء عواميد الإنارة فأغرق مثل مخبول مطارد في زحمة الحانات.. ومازالت السنة اللهب تتصاعد في جوفي .. والناس في حركة مستمرة.. يروحون ويغدون في محاولة لإطفاء اللهب بداخلي....

وتمر سنوات وسنوات ........

سألتني زوجتي وهي ترنو إلي بإشفاق:

*لماذا لا تأكل يا سي رشاد ؟!

نظرت إليها وقد تسربت الحياة من وجهي في صمت

دخلت غرفتي .. اقتربت من المرآة .. اتسعت دائرة العين ، دون أن الفظ كلمة واحدة ،رحت أندس تحت الغطاء .. أضع طرفه الاعلي تحت كتفي .. اختفي تحته .. انعزل عن العالم ، في هذه اللحظة .. تمنيت أن أسافر بمفردي بعيداً .. وهكذا وقعت فريسة السخونة والمرض،وأضربت عن الطعام ، وخارت قوتي .. لم أر وجهي سنوات طويلة .. وعندما دققت النظر فيه .. كنت أتمني الموت - واره بأشكال عديدة - ولكنه لم يكن يأتي .

( 8 )

تحرك بي التاكسي وأنا لا ادري إلي أين هو ذاهب بي نطقت شفتاي في هدوء ..

*خان جعفر من فضلك.

هبطت من التاكسي ورحت امشي بلا هُدي، تردت طويلاً قبل شراء السكين .. أخذت اقلبها في يدي بطريقة آلية .. كان الراديو من خلفي يصدر ( مارشات عسكرية ) .. تحول السكين إلي ( سُنكي ) أراني انهال علي ( عوض قنديل ) طعنته عشرات الطعنات، ثم بترت ( عضوه ) وألقمته في فمه

تنبهت من غفلتي علي إيقاعات صاجات بائع العرقسوس كان صوته يملا المكان " اشرب خمير "

ثم عادت أصوات تتناهي إلي مسمعي كأنها أجراس الخلاص تنفذ بداخلي عبر مسارات متفرقة .

فارتعشت أهدابي التي أصابها الشيب خلف النظارة الشمسية .. هذا هو الليل ، صديق المجرم والشاعر والرجل الوحيد.

تسكعت .. تعبت من التجوال .. أنصت بكل حواسي لهمس الشيطان .. انتفضت مذعوراً :

*سأنتقم !

وهنا داخلني الخوف ، وارتعدت مفاصلي ، فشهقت شهقات متقطعة لا إرادية.

( 9 )

قُدر لي أن أعيد حياتي من جديد .. أُخلصها من أدرانها سأقف عند النقطة التي مست كبريائي .. اقتربت من سرايا ( عوض قنديل ) المرابطة في مصر الجديدة .. كانت الشمس لحظتها في اقرب الأوضاع إلي الأبنية الواطئة .. بخطوات مهرولة .. وقفت أمام البوابة العملاقة دققت في اللوحة المعدنية الصدئة كان مدون عليها ( فيلا الحاج عوض قنديل ) .. رجل أعمال .. دائماً تظهر إدارة البشر وقوتهم في جو التحدي .. تمر ساعات وأنا أتردد في الدخول .. حتى زحف الليل علي المكان وبدت كأنها البركان .. وضعت إصبعي المرتعش علي الجرس فتح لي خادم اسود .. سألته عن(عوض قنديل) رد بكلمات غير مرتبة .. فهمت أن (عوض قنديل) لازال نائماً.. الشئ الذي يسري في فمي مر غريب..
هرعت إلي الطابق العلوي في غفلة من الخادم عند ما رن جرس التليفون بالمكتب .

لمحت ساعة الحائط الموجودة أعلي الدرابزين تشير إلي العاشرة .

أخرجت السكينة في هدوء .. تسللت .. تلفت حولي .. ودخلت بعد بحث للغرفة التي يرقد فيها (عوض قنديل) ..هالتني المفاجـأة وأنا أراه غارقاً في بحرٍ من الدم ..كل ما حولي غريب يومئ بالضياع

*غير معقول !!

سرى الخدر في كياني وبدأ النور يتغلغل شيئاً فشيئاً يتسلل عبر الظلمة بداخلي فيطردها .. تمتمت : *من سبقني وانتقم منه؟!

وهنالك يبدو النخيل الذي يلف السرايا يلتقي بالأفق مشرئب العنق يتمايل طرباً معي .

وكأنما سُر لمقتل (عوض قنديل).. هممت أن انهض في إيقاعات سريعة مضطربة .. وسط هذا الهلع .. انخلع فكري وتجمد .

( 10 )

لا أدري لم لا ينته العالم الآن ، لا حاجة لي أن أعيش بعد اللحظة.. فقد هدأت نفسي وتسرب ضوء القمر بداخلي من خلال تلك السحب العنيدة .. لمحتها من خلف شيش النافذة وأنا ارقب الشارع أمام الفيلا .. كان خالياً .. إلا من قليل لا يذكر من طوارق الليل .. سيارات مخمورين .. كلاب ضالة .. صوت عسكري الدورية الجهوري ..

*هااااااااااه ....!

كان صدري يعلو ويهبط في تتابع واستبد بي الانفعال عندما رأيت شخوصاً عده تتراقص أمامي في تداخل .. شعرت بالاختناق .. فأوهمت نفسي إنني سأستمتع وأنا أري هذا ( الجلف ) وعضوه المبتور يتدلى من فمه ..

وقبل أن استمتع بالمنظر .. دخل الخادم الأسود في يده شئ لم أعييه .. فأطلق صرخات مدوية فما كان مني إلا الهرب .. رحت ألوذ بأحد أركان الحديقة الواسعة .. كنت اسمع جلبة الخدم التي تبحث عني وتعالت أصوات الكلاب .. ترتفع فوهات البنادق بالطلقات .. هرباً كنت أجول بعيني وسط أشباح التلال المتراصة ..الجاثمة.. والأرض البعيدة التي يلفها ظلام مجهول ..عندها وصلت إلي طريق الأمان .. احتبست الكلمات في حلقي .. بينما عيناي تتألقان بدموع غزيرة .. أحسست براسي يدور في محاولة لتعويض ما فاتني من وقت.. كانت أقدامي تركض بشدة .. لم أكن خائفا من النهاية بل اجتاحتني ثقة غريبة .. ثم تسلل إلي روحي نسمات رضا مفتقد... شعرت بأياد كثيرة ..اعترتني رجفة مفاجأة ..تقبض علي كل أنحائي .. تزاحمت حولي الأصوات وعلت ضربات قلبي .. فمسحت وجهي براحتي ..

وسُلمت رغماً عني لرجال الشرطة .

( 11 )

.......

ارتفع صوت وكيل النيابة في انزعاج :

*لماذا قتلت (عوض قنديل ) ؟!

* ............................

*الصمت لن يفيدك !

ثم ضرب بقبضه علي المكتب

( 12 )

كانت النباتات الشيطانية القابعة في نهاية الطرقة الخرسانية ترتعش علي صوت (البروجي) فوق مبني السجن .. تيقظت من غفلتي .. وأخذ قلبي يخفق .. رئتي لازالت تمارس وظيفتها في نقل الحياة لي ، كان حبل المشنقة يعلق بمخيلتي كل لحظة .....

( 13 )

جو الزنزانة كئيبا .. رائحة نفاذة غير محددة.. أخذت أتحسس جسدي .. نزعت بعض الشعيرات من إبطي .. تفحصتها .. نزعت أخري .. وأخري.. ، كنت أتلذذ بالألم ..

* أنا أتألم.. إذا أنا حي ! .. نعم لا زلت حياً .. لم ينفذ حكم الإعدام بعد.

( طق ..طق ..طق ) ما بال الوقت يمر سريعاً والليل يركض بلا هوادة.. تسرب إلي معدتي إحساس بالجوع .. كدتُ أن أنفجر من هذا الإحساس .. ابتسمت في مرارة .. فأن اللقمة التي تنزل معدتي الآن .. لن يمهلها عشماوي أن تخرج من دبري ..

( طق ..طق ..طق ) .. طاوعت نفسي وأخذت بعض اللقيمات .. وجدتها بلا طعم .. واستقر في أنفي رائحة البول .. لا أريد أن أموت بموعد محدد..

لكنهم حددوه.. بعد ساعة ونصف .

أشعر بالحارس وقد صار خلف باب الزنزانة .

( 14 )

تحرك مزلاج باب العنبر .. فدخل النور في صمت .. لمحت ثُلة من البشر تقف أمامي .. يتوسطهم شيخُُ معمم ، والي جواره مأمور السجن ، فانتفضت خلايا جسدي .

كان وجهي جامد الملامح .. لم أطق الانتظار لحظة واحدة .

( 15 )

راح الرجل يلتهم سندوتشات الكبده أمام العربة المتحركة .. تأمل بعد أن فرغ من الأكل ورقة ( الجرنال ) التي أمامه .. قرأها بصوت مسموع:

*محكوم عليه بالإعدام .. يموت من الخوف .. ثم تظهر برأته !

كور الرجل ورقة(الجرنال) ثم ألقاها في سلة المهملات .. وانتهت الصورة .. كانت الشمس قد برصت وارتعشت وبدأت البقع البيضاء تتناثر علي صفحة الكون من جديد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق