ماهية القصة القصيرة جدا .. وتداخل الأجناس
بقلم مهندس: خيري عبدالعزيز عبدالباري
يمكن تعريف القصة القصيرة جدا بأنها سهم ينطلق بسرعة
البرق نحو هدف بعينه في زمن وجيز وبأقل الكلمات الممكنة, فهي بمنتهي
البساطة قصة ما تبدأ إلا لتنتهي, وقد تكون في بعض
الأحيان لحظة البدء هي لحظة الانتهاء..
هي دفقة شعورية أو فكرية أو تصويرية تتملك الكاتب وتؤثر في
وجدانه وعقله الواعي, فينقلها إلي الورق بنفس كثافتها وغزارتها, من خلال لغة أقرب
ما تكون إلي اللغة الشعرية من حيث الغزارة والتكثيف أيضا؛ لتترك في نفس المتلقي انطباعا مماثلا أو مشابها أو مناقضا.
والقصة القصيرة جدا في ماهيتها قد تخلت عن بعض أو معظم أو كل العناصر المكونة
للقصة القصيرة من حيث البناء والتكوين والشروط, وهي غير مقيدة بأي من ذلك أو ملزمة
به, فمن الممكن أن نقرأ قصة قصيرة جدا بلا شخصية ولا حدث ولا صراع ولا حبكة
وبالتالي بلا بداية ولا عقدة ولا لحظة تنوير, وكذلك بلا بيئة أي لا وجود للزمان
ولا المكان, أي أنها قد تجردت وتخلت عن كل مفردات القصة القصيرة, وهدمت كل أركانها,
وتخطت نطاق حدودها, صانعة عالمها الخاص المختلف والمتفرد, وقد تكون بالرغم من ذلك
كله قصة ناجحة جدا, فهي ربما دفقة شعورية انطلقت كالبرق لتؤثر في وجدان كل من
يقرأها وتترك في نفسه أثرا ما..
وقد نقرأ أيضا قصصا قصيرة جدا بها بعض العناصر السالفة التي تخلت عنها ولم
تتقيد بها قصصا أخري, وكلاهما عظيم جدا وناجح جدا, وكلاهما يندرج تحت مسمي القصة
القصيرة جدا عن جدارة واستحقاق.. ليست هذه هي القضية, لأن الفيصل الحق الذي يصنع
سياجا يحفظ للقصة القصيرة جدا ماهيتها, وكينونتها, وقالبها المميز عن بقية الأجناس
الأدبية الخري, وخاصة القصة القصيرة ويمحق الالتباس البين بينهما يكمن في موضع أخر..
فإن كان هناك علاقة ما أو تشابها ما بين القصة
القصيرة والقصة القصيرة جدا, فمن الممكن القول أن القصة القصيرة جدا هي القصة
القصيرة, ولكن من منظور مُجرد.. القصة القصيرة جدا هي نظرة تجريدية للنفس وللبشر والأحداث
والمشاعر والزمان والمكان, هي نظرة تجريدية للحياة ككل.. ليست هي لوحة الرسم
بحيوية أشخاصها وصخب ألوانها, ولكنها الفكرة أو الشعور الذي تملك الرسام واستفز
موهبته ليرسم اللوحة.. تماما كما الفرق بين اللوحة الواقعية واللوحة السريالية
فالواقعية تنقل جزء من الحياة, قد لا نراه رغم وجوده أمامنا طوال الوقت, ولكن عين
الفنان تراه وتكشفه عنه بالفن للبسطاء.. أما السريالية فتري أبعد من ذلك وأعمق فإنها
تصل إلي أغوار الأغوار وتكشف وتعري ماهية وحقيقة الأشياء بلا مواربة علي الأقل من
وجهة نظر الفنان..
وبراعة الكاتب الحق هي تحقيق عملية التوازن المستعصية بين الدفقة التي
اجتاحته أو نظرته التجريدية للأشياء, والخط الزمني من ناحية, وأخيرا اللغة المكثفة
القريبة من اللغة الشعرية من ناحية أخري.. وان حدث هذا التوازن بدون ترهل في أحد
عناصره بمعني أن يكون الجلباب علي المقاس تماما - بلا ضيق أو اتساع - فهي بلا ريب
قد حققت شوطا هاما علي طريق النجاح أما النجاح المبين فله أسباب أخري تعتمد علي
براعة الكاتب وموهبته وحرفيته في التناول والعرض..
خيري عبدالعزيز
عبدالباري
alganaway@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق