2013-01-28

التناحر السياسي بداية النهاية ... بقلم : ياسر الششتاوي



إن السياسة هي فن الممكن كما يقولون ،والخروج بها إلى دائرة اللاممكن يخلق الأزمات التي تؤثرعلى مستقبل الوطن ، ومما يؤدي إلى استفحال التراجع السياسي ،وسقوط الوطن بين المهاوى التي يصعب الخلاص منها ،اشتعال التناحر السياسي بين القوى الوطنية.
إن الرغبة في الحصول على العكعكة السياسية كاملة هو الغباء بعينه،لأن الوطن السيلم في التعدد القويم ، والتعدد القويم يكون في احترام كل فريق للفريق المعارض ، لا أن يسعى إلى هدمه ، وإزاحته من السلطة إذا وصل لها، وخاصة إذا كان قد وصل لها بطريقة شرعية ، ولكن في الآن نفسه لا يعقل أن يسيطر فريق واحد على كل مقدرات الوطن مهما بلغت أغلبية هذا الفريق أو سطوته في الشارع ، لأن رغبة فريق في إقصاء فريق أو القضاء عليه هو خطر على الفريقين وعلى الوطن كله .
إن الوطن يجب أن يكون للجميع ، وأن يؤمن أبناؤه بذلك ، وهذه هي الخطوة الأولى في بناء وطن صحيح ، وأن نشارك بعضنا البعض في استكمال صرح هذا الوطن ، ولا يكون هذا من خلال الشعارات والكلام الجميل، ولكن من خلال التطبيق الفعلي ، فالمصيبة أن الكلام السياسي في أغلب الأحوال لا يطابق الفعل ولو في القليل ، إنما هو من قبيل الاستهلاك الإعلامي ،فما أحوجنا إلى الصدق السياسي !!
إن اختلاف الآراء في السياسة وفي غيرها أمر طبيعي ، بل هو مصدر من مصادر التنوع الفكري ، وتلاقح الأفكار ، ولكن هذا الاختلاف والتعبير عنه لا بد أن يكون له وسائل أخلاقية وشرعية ،ولا يمتد الأمر إلى البلطجة والسباب والشتائم ،أما أن يخرج خط سير الاختلاف إلى التدمير والتخريب والسب والقذف ، فهذا عين التناحر الذي نشاهد بعض جوانبه في أحداث تترك بصماتها المحزنه في واقع وطننا .
 وأسباب التناحر السياسي ترجع إلى تفاقم الأطماع السياسية الشخصية أو الحزبية أو الرغبة في الظهور، والقيام بدور المدافع عن الوطن ،لاكتساب أرضية سياسية على حساب الآخرين ،والمعارضة لأجل المعارضة هي دأب من يدمنون التناحر السياسي ، فهم لا يبحثون عن حلول ، إنما كل همهم أن يضعوا العربة أمام الحصان ، كي تظل الأزمات موجودة ، لأن في وجود الأزمات يتحصل وجود لهم ، فهم يعيشون عليها ولها !!
ومما يؤدي إلى التناحر السياسي أيضاً الإيمان المطلق بأن ما لديك هو الصواب ، وأن ما عند غيرك هو الباطل، مما يؤدي إلى التباعد والتنافر وقتل أي فرصة للتقارب
ونتائج التناحر السياسي انتشار الشائعات والأخبار الكاذبة التي يطلقها كل فريق على الفريق الآخر ، وكذلك استخدام الكثير من الوسائل غير الأخلاقية في تشويه صورة الآخر ، وكل يوم يمر في ساحة التناحر السياسي يوسع الهوة بين الفرقاء، وهذا يؤدي بلا شك إلى تدهور الوطن من الناحية الاقتصادية ، وهذا ما نشاهده فعلياً من خلال البورصة فعندما يحدث الوفاق والتفاهم والمضي قدما في تأسيس الدولة الديمقراطية نلاحظ ارتفاع مؤشر البورصة وعندما يحدث العكس من الشقاق والتناحر يهبط المؤشر ، وتجد الخسائر طريقها إلينا جميعاً ، ولكي نقضي على التناحر السياسي  لا بد أن يتخلى كل فريق وكل سياسي عن بعض رغباته وأحلامه وخاصة أحلامه الشخصية، وطموحاته الفردية ، ولا يرفع من سقف مطالبه رغبة في تعجيز الآخر، إذا كان هذا الآخر يحاول أن يمد له يداً ،فيجب عليه أن يضع مصلحة الوطن فوق مصلحته، ومصلحة حزبه أو جماعته ، كما ينبغى أن يفهم كل فريق أنه وحده لا يستطيع أن يخرج بالوطن من مأزقه ، وأن السفينة يجب أن تحمل الجميع، لا أن تغرق البعض ـ مهما كانت توجهاتهم ـ وترسو بالبعض فالحقيقة أن السفينة لن ترسو أبداً،إذا كان ربان السفينة يفكر بهذه الطريقة،فإن من يريد أن يغرقهم قد يغرقونه، ويغرقون كل من على السفينة .
من هنا لا بد من البحث عن حل وسط يجمع الجميع ، وأن يتنازل كل فريق عن بعض الأمور من أجل الفوز بأمور أثمن ، تؤدى إلى تجربة ديمقراطية حقيقية تثمر ما ينبغي أن يكون ، وتؤدى إلى احترام عامة الشعب لنخبته ، لا أن ينصرف عنها ، لأنه في النهاية لا يهم المواطن العادي تلك الصراعات بقدر ما يهمه ما يشاهده على أرض الواقع من تحسن في حالته وفي لقمة عيشه ، أما إصرار كل فريق على ما في جعبته ،فلن ينتهي التناحر ، وسندخل  النفق المظلم الذي لا يستبعد أن يحدث في داخله أي شيء بداية من التقاتل اللفظي إلى التشابك الدموي ، وقد يتخطى الأمر ذلك ، وتحدث كارثة الحرب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد ، وبدلاً من يكون الاختلاف وسيلة للإصلاح والتقدم بالوطن وتبادل الأفكار ، يصبح وسيلة للتخلف والسقوط من خلال التناحر السياسي الذي لو استمر في ظل ظروف الوطن الصعبة ستكون هذه بداية النهاية.


                                بقلم : ياسر الششتاوي

2013-01-23

طبل صفيح.... للشاعر الكبير أحمد بخيت

ستـعتـذرُ الجـراحُ إلى الجـريـحِ
كـما اعتذرَ الصليبُ إلى المسيحِ
وطنطنةُ الكلامِ عَن الضحايا
كباقاتِ الزهورِ على ضريحِ

أتكفي خطبةُ "ابن أبيهِ" عُذرا

عن الطعناتِ في السِّبْطِ الذبيحِ؟**

غناؤك لا النسورُعلى جبالي


ولا خَفْقُ النسائمِ في سُفوحي*


متى علَّلتَ بالكلماتِ كَلْمَى؟

وما جدوى القريحةِ للقريحِ؟


أَمَنْ يمشي على حرفٍ فصيحٍ

كَمَنْ يمشي على جرحٍ فصيحِ؟*

أتبسطُ عُذْرَ "هارونٍ" لـ "موسى"

وعِجْلُ "السامريِّ" إليك يُوحِي ؟

كَذِبْتُمْ في المجازرِ لا مجازٌ
ولا تجميلَ للوجهِ القبيحِ

أعذريون في الخُطَبِ البغايا
إباحيونَ في الموتِ الصريحِ ؟


صدى يلد الصدى والصوت خاو
كضربِ عصا على طبلٍ صفيحِ


ألم تطلقْ ضِباعَ الأرض فينا
وتبسم عن فم الفَتْكِ المُريحِ

كدأبِكَ لا يقودُ خُطاكَ إلا
أفاعي السمِّ تجارُ الفحيحِ


طهاةُ الوهمِ، خَبَّازو الخطايا
سُقاةُ الجهلِ ،حجَّابُ الوضوحِ

وأقطابُ السياسةِ ، في الدنايا
وأربابُ النخاسةِ ، في القبيحِ




صيارفةُ الوصايا في الصبايا
إذا احتاجَ النِّكاحُ إلى نَصيحِ

ندامى كلِّ دينارٍ ، وسيفٍ
سماسرةُ الإباحةِ ، للمُبيحِ


فلا تلبسْ عباءةَ ذي قروحٍ
ضلالُك في عباءةِ "ذي القروحِ

قصائدُ مادِحِيكَ أشدُّ جُرمًا
فـ "قفازُ "الجريمةِ" في المديحِ


كدأبِكَ لا المهابُ ولا المُرجّى
كناطورِ الحقولِ بغيرِ رُوْحِ


ألم تَنقضْ عهودَكَ نَقْضَ غَزْلٍ
كـ "بيتِ العنكبوتِ" كـ "قَبْضِ ريحِ"؟


إذا كنت "ابن عمرانٍ" لماذا
نرى فرعونَ مِنْ خلفِ المسوحِ

تُلفِّقُ عِلَّةً في كلِّ فِعْلٍ
ولاعلات في الفعلِ الصحيحِ

متى شعَّ الظلاميون نورًا
وَ هُمْ قِطَعٌ مِنَ الليلِ الفسيحِ؟


متى تابوا عن الإسرافِ كرهًا
لأعمارٍ مِنَ الحبِّ الشحيحِ



لقد أغرقتَ شَعْبَكَ دونَ "نُوْحٍ"
وأحرقتَ السفينةَ يا"بنَ نُوْحِ








* طبل صفيح عنوان لإحدى أشهر روايات الكاتب الألماني
"جونتر جراس "الحاصل على جائزة نوبل في الأدب

2013-01-21

الجمهوريات أصبحت أرثاً ... شعر : ياسر الششتاوي


الجمهوريات أصبحت أرثاً
( كتبتْ عندما تولى بشار حكم سوريا )


إن السماء لا تكون غيرها
إلا بأعين ٍ
تشوبها مرارة العطبْ
والشوك لا يمكن
أن يصبح في يوم ٍعنبْ
إلا لدينا يا مواجيدي
ففي بلادنا
شموس جمهوريةٍ
قد أصبحت أرثاً لواحدٍ 
كما نرى
من بعدها
أخرى
وأخرى
ثم يفرضون أن نحترم الكذبْ
فتهرب الأرجاء من أرجائنا
إلى مخالب الحجبْ
ويقف النفاق من كثرته سداً
أمام روعة الغضبْ
فإننا لن نبلغ التقدم الذي ننشده
إذا كنا نظن أنه
كوجه المستحيل
أو كغول ٍ
يسكن الشهبْ
حتى متى نترك أمرنا
لحكام ٍبلا شرعية ٍ
ونرتضي
أن نغتدي
في يدهم مثل اللعبْ ؟!
حتى متى
لا نحصد النور
ونغتال السحبْ ؟!
حتى متى
نخاف من حقوقنا
نقنع بالحطبْ ؟!!
خوفاً من الخوف
وخوفاً من أبي لهبْ
يا أمتي
كم فيكِ
من أبي لهبْ
حتى متى
نظل سيفاً
في حنايا ما يجبْ ؟!!
فيا رياح الحزن
هاتي صرخة الأسى
فقد يستيقظ العربْ

                   شعر: ياسر الششتاوي

2013-01-17

الموت في بلادي ... شعر : ياسر الششتاوي


الموت في بلادي
يفعل ما يريده                     
ولا يُحاسب
وحكومتنا تسانده
قطاراتٌ مرتعشة ٌ
مسنّة ٌ
نُقذف فيها
مثلما علب السردين
والمسؤولون يأكلون
ويشربون
يضحكون
ويجازون براتبٍ ضخمٍ
والأمهات تقطّعتْ قلوبهم
بسكين المصيبة
والصبر من أين يشترون ؟
قل أيها الصبر
فالفقراء في بلادي يموتون
جوعاً
وحرقاً
وغرقاً
وتحت الأنقاض تلقاهم
على رفاتهم يكتبون
متى يا بلادي
ترحل عنك الكوارث
***
هذا قطار الموت
يأكل أجسادنا
قطعة ً
قطعة ً
رغماً عنه
يا أيها القطار
ماذا جرى ؟؟
قل لنا
قال القطار :
لا وقت عندي للكلام
إنني أبكي
أبكي على الجرحى
والشهداء
وأخاف أن أبكي غداً
على موت الوطن
في قطار
بدون مكابح
يا أيها الإهمال
قل لنا
ماذا جرى ؟؟
أشاح بوجهه
لم أفعل شيئاً
السبب غيري
السبب غيري
أنا طوال عمري منضبط جداً !!
يا أيتها الحكومة
ماذا جرى
الحكومة تعلن
سندفع خمسين ألفاً
عن كل رأس
ماتت
وعشرة عمن قد جرح
والبقاء لله
ماذا سنفعل
أمام القضاء والقدر ؟؟
شكراً لك
أيتها الحكومة
كم أتمنى أن أموت
حتى أنال الخمسين ألفاً
وأشتري
قبراً فاخراً
يليق بموتي
في قطارنا الوطني
وأضع الباقي
في البنك الأهلي للموتى
لتمتْ
أيها الشعب جميعاً
تحت عجلات القطار
كي تنال الخمسين
فالموت في بلادي
أصبح له ثمناً
ما أبخس الثمن
الموت في بلادي
سيأتي كل يوم ٍ
كي يأخذ
مايريده ... وزيادة
لكنه لن يفرم
غير الفقراء
كي يصيروا كفتة الوطن
سيترك السادة الكبار
والوزراء
من يجازون براتب ضخم
ومن لا ينسون
أن يقوموا
باجتماعات وهميةٍ
تشبههم
ثم يضحكون
أو يبكون
إذا تتطلب الأمر
حفنة نفاق ٍ
أيها الموت
لك الحق
أن تأتي كل يومٍ
تأخذ ما تريده
وزيادة
ما دام هؤلاء
يقودون القطار

               شعر : ياسر الششتاوي
               16 ـ 1 ـ 2013م


2013-01-11

محاولة اكتشاف الذات في قصيدة ( دون وعي مضى ) للشاعر ممدوح المتولي .. بقلم ياسر الششتاوي


محاولة اكتشاف الذات في قصيدة ( دون وعي مضى ) للشاعر ممدوح المتولي .. بقلم ياسر الششتاوي
                                    ***
تلبسه الجن ؟
أم زرقة كشّفتْ سرها
أم الغيث من بعد جدبٍ يحط
أم الأبجدية قد غسلته بماء التوحد والإنعتاق ؟
هو الآن يشرب
من نهر نور ٍ
ويمسك حبل الضياء الكليم
كأن التي شاغلتْ صمته
من الدفء قدتْ
وألقت به للجنون القويم
كأني به دون قصد مضى
إلى جنةٍ أو جحيم
كأني به
على جسر أحلامه
يكور شمساً بملء يديه
وينأى عن الأرض والعالمين
كأني التي شاغلتْ صمته
تبلل الرؤى فيه باليقين
فيسبح في فيض لألائه
ويفرح بالوجد كالعارفين
شعر : ممدوح المتولي
القصيدة من ديوان ( حديث عابر على جرح مقيم )
التحليل والرؤية :
إذا نظرنا إلى عنوان القصيدة ( دون وعي مضى ) سنجد أنه يوحي بدلالتين أولهما أن الشاعر يمضي بلا هدف معين ، أما الدلالة الثانية أن الشاعر مضى دون رغبة منه في المضي، ولكنه لا يملك إلا أن يمضي ،ويمكن أن نضيف دلالة ثالثة أن الشاعر تشده قوة سحرية تدفعه إلى أن يمضي بلا وعي ، ولا نستطيع أن نجزم بواحدة أو أكثر من الدلالات التي يطرحها النص، وهنا تكمن ماهية النص الذي تسهر في خدمته الدلالات ، وعلى كل حال هذا ينم عما يعانيه الشاعر من حيرة وشك وعدم الجزم بأشياء يصبح الجزم بها منافياً لإبداعية الشعر وروحه المنطلقة .
في بداية القصيدة يتحدث الشاعر عن نفسه ولكن بضمير الغائب ، وكأن الشاعر يريد أن يبعد عن نفسه كي يراها بوضوح،فإن الأشياء إذا اقتربتْ من العين قرباً شديداً لا نستطيع أن نراها كما ينبغي، فلا بد من مسافة مناسبة بيننا وبين الأشياء ، وكذلك لابد من مسافة بيننا وبين النفس كي نرى إلى أين تسير ، وهذا ما حققه ضمير الغائب فلم يقل الشاعر في البداية تلبسني الجن بل قال تلبسه الجن، إنه يريد أن يتعرف على نفسه من جديد أو يتعرف على لحظة شعورية تعيشها النفس ربما تختلف عن بقية اللحظات ،وفي سبيل هذا التعرف والتشوف فإن الشاعر سيقع في حيرة وشك ،وهذا ما سنلاحظه منذ بداية القصيدة فسنجد " أم " تتكرر أكثر من مرة في القصيدة ، فالشاعر يقول :
تلبسه الجن ؟
أم زرقة كشّفتْ سرها
أم الغيث من بعد جدبٍ يحط
أم الأبجدية قد غسلته بماء التوحد والإنعتاق ؟
إن الشاعر يضع نفسه أمام نفسه ، هل نفسه تلبسها الجن ؟ والجن يرتبط في الذهن بالقدرة الخارقة ، وقد يرى بعض الناس الجن خلقاً في مرتبة أقوى من الإنسان ، كما ينسبون إليه حكايات فتك كثيرة بالناس ، فهل الجن سيفتك بالشاعر خلال تلبسه له ؟ أم سيهبه القدرة الخارقة ؟ وخاصة أن الجن مرتبط بالشعراء منذ الجاهليه ، فالشاعر الفحل يوحى له جن ذكر فحل والشاعر الضعيف لا يتصل به الجن ،ولا يعطيه شيئاً من معجزات الفصاحة ، ثم يقول الشاعر بعد ذلك : أم زرقة كشّفتْ سرها ؟
إن "أم" هنا للتخيير مما يبعث الشك في حكاية تلبس الجن للشاعر ، وإن كان لا ينفيها ،فالشاعر لم يقطع بتلبس الجن له ،لأنه وضع أمامنا اختياراً آخر ، بل خيارات مما يدل على حيرة الشاعر في توصيف نفسه وحالته ، أو الإمساك بملابساتها في لحظة شعورية شديدة التشابك ، ولكن هذه الحيرة حيرة خلاقة ، لأنها توفر له البدائل ، وتضع نفسه أمام العديد من المرايا ، فهل الزرقة كشفت سرها للشاعر ؟ ولننظر إلى تضعيف الشين في الفعل "كشّفت " مما يوحي بثراء هذا التكشف وامتداده ، وانبهار الشاعر بهذا التكشف ، ولكن لماذا الزرقة ؟ إن اللون الأزرق من الألوان الساخنة أي من الألوان التي توحي بالدفء ،كما أن اللون الأزرق لون مسيطر ، فاللون الأزرق يحتل السماء بما لها من اتساع ، وهذا اللون ينعكس بزرقته على الأمواه التي تحتل ثلثي الكرة الأرضية ، إن اللون الأزرق لون مسيطر على الأرض والسماء ، فهل هذا اللون الذي يعتبر ملك الألوان ، قد تخاطب مع الشاعر ؟ وكشف له عن العديد من الأسرار ؟ قد يكون ، ثم ينتقل الشاعر إلى "أم" أخرى فيقول (أم الغيث من جدب يحط ) ونلاحظ هنا كلمة "جدب" هي التي تعطي للغيث أهميته، فالشاعر عاش في انتظار ،يراقب الغيث ليعرف أين يحط ،لكن الشاعر لم يجزم بهبوط الغيث،ويظل ينتقل من منطقة إلى أخرى، فها هو ينتقل إلى "أم" أخرى قد تكون أكثر ارتباطاً بالشاعر فيقول ( أم الأبجدية قد غسلته بماء التوحد والإنعتاق ) إن الشاعر يرى في لغته وأبجديته قوة فاعلة فهي قادرة على أن تطهره من الأنانية والعبودية فهي تغلسه بماء التوحد مع الكون ،وقد قلنا في بداية هذه الدراسة أن الشاعر يحاول الابتعاد عن نفسه ،ليتوحد مع الكون مما يؤدي إلى تبدد الأنانية التي هي مصدر لكل الشرور على الأرض ، وهذا ما يحاول الشاعر أن ينعتق منه ، إنه يريد أن ينعتق من عالم القبح ،وأن يتوحد بعالم الجمال ،فإذا نظرنا إلى كلمة " غسلته " والتغسيل غالباً يرتبط بالميت والانتقال من عالم إلى آخر، فسوف نرى أن تغسيل الأبجدية للشاعر أحياء له ،وانتقال به من عالم القبح إلى عالم الجمال ،ومن العبودية إلى الحرية ،فأي هذه الاحتمالات هو ما يسيطرعلى الشاعر ؟ هل الجن بما له من قوة أم الزرقة ،وما تحتوي من أسرار أم الغيث وما له من أهمية ؟ أم الأبجدية وما لها من لامحدودية ؟ الشاعر لم ينحز إلى أي من هذه الاحتمالات ،لأن الانحياز إلى شيء واحد يخرج الشاعر من المطلق إلى المحدود مما يؤدي إلى عدم اكتشاف الشاعر لذاته بالصورة المرجوة ،ولا يعنى هذا أن هذه الاحتمالات بنفس القوة داخل نفس الشاعر ،وقد يكون بعضها قوياًً ،وبعضها ضعيفاً ، ولكن ربما يتحول الاحتمال الضعيف إلى قوى والعكس صحيح ، أوربما تتعايش كل هذه الاحتمالات داخل نفس الشاعر،وتتحرك بطريقتها الخاصة ،كما نلاحظ أن الفعل الماضي له السطوة في هذه الاحتمالات ( تلبسه ـ كشفت ـ غسلته ) مما يدل على شدة تأثير الماضي في حاضر الشاعر ،أما الفعل المضارع الذي جاء في الاحتمال الثالث ( أم الغيث من جدب يحط ) فهو يدل على عدم فقدان الشاعر الأمل في حاضره ومستقبله ،وعدم فقدان الأمل في الغيث مهما توحش الجدب ، ثم يقول الشاعر :
هو الآن يشرب
من نهر نور
ويمسك حبل الضياء الكليم
إن الشاعر قد ملّ حيرته في توصيف حالته ، ولهذا يخاطر ،ويلجأ إلى أي شط إلى أن تنجلي الحقيقة ،والشاعر في توصيف حالته ، يستخدم الفعل المضارع"يشرب" بالإضافة إلى كلمة "الآن" مما يدل على أن هذا التوصيف للحظة الراهنة ،وليس للمستقبل فربما تستجد أشياء أخرى في المستقبل تستدعي أفعالاً مغايرة ،والشاعر يشرب من نهر نور ،وهذا الارتواء يمنح الشاعر القوة ،فيمسك حبل الضياء الكليم ،والحبل قد يستخدم في ربط الأشياء بعضها ببعض وتماسكها ، وقد يكون وسيلة للإنقاذ وخاصة إذا كان حبل من ضياء ،والضياء هنا ضياء مرشد لأنه ضياء كليم ،فبعد أن تخلص الشاعر من حيرة الماضي إلى حد ما ،وركن إلى توصيف حالته في اللحظة الآنية ،بأنه يشرب من نهر نورويمسك حبل الضياء الكليم ،نجد الماضي يحاول الظهور ثانياً ببعض محايثاته ،يقول الشاعر :
كأن التي شاغلت صمته
من الدفء قدتْ
وألقتْ به للجنون القويم
فهذه الدفقات جميع أفعالها ماضية ( شاغلت ـ قدت ـ ألقت ) كما نلاحظ اتصالها بتأء التأنيث ، وهنا يطل وجه المحبوبة في القصيدة ، لكنها محبوبة من نوع خاص ،إنها من الدفء قدت ،فهي ملاذ الشاعر من برد المشاعر الذي يغلف ما حوله ،كما أنها ألقت به إلى الجنون القويم ،فهي لهذا تستحق أن تشاغل صمته، والجنون القويم هنا هو الجنون الإبداعي الذي يتعرف على المناحي المختلفة والأكوان البعيدة ،أويعيد اكتشافها ،ويدخل إلى أغوارها دون النظر إلى المخاطر ،فكم من أدباء وفنانين وعلماء لطالما اتهموا بالجنون ثم ثبت أن جنونهم أو ما كان يظنه الغير جنوناً كان قمة العقلانية ،ووسيلة للوصول إلى شمس الحقيقة ، فالجنون الذي تدفع المحبوبة الشاعر نحوه هو الجنون المثمر ، ثم يقول الشاعر :
كأني به ـ دون قصد ـ مضى
إلى جنة أو جحيم
قد قلنا أن الشاعر أمام حيرته وشكه في اكتشاف ما بداخله قد ركن إلى توصيف حالته ،بأنه يشرب من نهر نور ويمسك حبل الضياء الكليم ، ولكن هذا التوصيف كان توصيفاً مؤقتاً، فها هو الشاعر بعد أن ركن إلى شط ـ كما قلنا ـ وارتوى بعض الشيء ،يواصل السير من جديد ،وتواصل حيرته السير معه أيضاً، ولا يدري ما مصيره ؟ وما الذي يقصده من تلك الرحلة ؟ وقد يكون ذلك لكثرة ما يطلبه الشاعر من رحلته ، وهذا الذي أوقعه في الشك والحيرة منذ بداية القصيدة ،وهذا يعني أن السير مغامرة قد تؤدي بالشاعر إلى الجحيم إذا انتصرت عليه المغامرة ، أما إذا انتصر على المغامرة فسيكون مصيره الجنة ،والمغامرة هنا تتمثل في رحلته لاكتشاف الذات ،ثم يقول الشاعر : 
كأني به
على جسر أحلامه
يكور شمساً بملء يديه
وينأى عن الأرض والعالمين
ولنلاحظ استخدام "كأني " التي توحي بالشك أو ببعد ما يتمناه الشاعر أو رغبته في عالم بلا شبيه ، يشبهه الشاعر بما يتوفر في عالمه الحالي ،لأن الشاعر كي يكتشف ذاته يدخلها في عالم خاص بلا شبيه،عالم له سمات تختلف عن سمات عالمنا ، ويصنع في هذا العالم شمسه التي تضئ طريق المعرفة ، وفيه يبتعد عن كل ماهو أرضي ليسمو إلى آفاق بعيدة تدفعه إليها أحلامه الكبيرة التي تمثل جسراً بين الواقع والمأمول، ثم يقول الشاعر :
كأن التي شاغلت صمته
تبلل فيه الرؤى باليقين
فيسبح في فيض لألائه
ويفرح بالوجد كالعارفين
إن الشاعر في عالمه الخاص يصطحب معه محبوبته لتكون ملهمته ،ونافذته على فيوضات وضاءة ،فهي التي تبلل الرؤى باليقين ،واليقين أثمن ما يطلبه الشاعر في رحلته التي يتشابك فيها الشك والحيرة ،وهذا ما لاحظناه منذ بداية القصيدة ،ومن خلال هذه الرؤية الصوفية للمحبوبة لا يهتم الشاعر بعطاءات الحبيبة الجسدية أو المادية ،بل بعطاءاتها الروحية والمعنوية التي تمنح الشاعر اليقين ،فيسبح في فيوضات لألائه، ويفرح بمعرفة الحقيقة ،وما يجده في جعبتها ،ويصبح كالعارفين الذين يصلون للحقائق بالمكاشفات القلبية ،وليست بالوسائل المحسوسة التي قد تخدعنا أحياناً .

                                  بقلم : ياسر الششتاوي

2013-01-03

آمال في عامها الأول ... شعر :ياسر الششتاوي


بنيّتي آمالْ
في عامها الأول
كالحديقة التي بها
أنفاس عمري
تقطف الصفاء والجمالْ
جاءت إلى الدنيا
كأنني أنا الذي ولدتُ
من جديدٍ
وكأنني أنا
من يبدأ العمر بها
ويسكن الخيالْ
تبْسم
في وجهي
فأملك الدنى
أحس أني نلتُ
ما ليس ينالْ
بنيّتي كنزي
وأجمل الهدايا
من إلهي
وأنا بها
أباهي رحلتي
وأخرس الزوالْ
يا بهجة العمر
أنا هنا
تعالي لا تخافي
كي تعيشي معنا
في ظل أسرةٍ
بها أجمل طفلةٍ
تشدّ أعين الأجيالْ
بنيتي قلبي
وعقلي
إنها أميرة الروح
ووجهها يغذي نشوتي
بروعة الحياة
فالحياة لم تكن حياة قبلها
بنيتي آمالْ
تمشي
تتعثر الخطى
تبكي
أشيلها
كأنني أشيل نبضي
وألاعب الحياة عندما
تلعب في مكتبتي
بكتبٍ كانوا أمام عبثها
جميعهم أبطالْ
يا ليتني
أرجع طفلاً
أبيض الصفحة
لا أشكو
من الدنيا
ولا من قسوة الأحوالْ
بنيتي
كم تثلج الصدر
تخفف الأسى عني
إذا أبصرتها
أنسى عنائي
وأغادر الملالْ
أبقاك ربي
يا بنيتي
من السرور تغرفين
لا ذقت الذي
يُخسرك الكمالْ
                     شعر : ياسر الششتاوي